منذ كنت طفلة صغيرة، لم أكن يوماً بعيدة عن الرياضة، فأمي التي لطالما كانت مصدر إلهامي وقدوتي، كانت من أشد الناس التزاماً بممارستها، فكبرت وترععت على حب الرياضة، وكانت أمي هي أول من زرع بذور حبها في داخلي، حتى اصبحت الرياضة من اساسيات الحياة.

كنت في العشرين من عمري عندما التحقت بجامعة بولونيا الإيطالية من ضمن برنامج لتبادل الثقافات، عشت في بولونيا لنحو عام واحد تعلمت فيها الكثير وصقلت شخصيتي، وأحببت نمط الحياة الغربية.

عدت إلى موطني الأردن أحمل في قلبي الكثير من الحب والاشتياق لأصدقاء عشت معهم أجمل أيام حياتي في إيطاليا. شعرت بفراغ كبير وبدأت أفكر بالالتحاق بأحد برامج الماجستير، لا لشيء ولكن لأعود إلى المكان الذي وجدت نفسي فيه في بولونيا، ولكني في نفس الوقت حاولت أن أكون واقعية في تفكيري، فكان لابد من إشغال نفسي بما هو مفيد، فبدأت بالتقدم إلى وظائف تناسب تخصصي الدراسي، والتحقت بأحد الاندية الرياضة (الجيم) لأول مرة في حياتي. مارست رياضة رفع الأثقال والحصص الجماعية، ثم تم تعييني كمدرسة في أحد أفضل مدارس العاصمة عمان، فحاولت التركيز على وظيفتي الجديدة، وداومت على ممارسة الرياضة وبدأت ألمس ما أكسبتني من اللياقة البدنية والمظهر الجميل.

بدأت ممارسة رياضة الركض في العام 2017، حيث كانت إحدى زميلاتي المعلمات “ميلاني” وهي أجنبية مقيمة في الأردن تمارس رياضة الجري بانتظام، كنت أرى فيها حيوية ونشاطاً لم أكن أراهما في سواها من زميلاتنا المعلمات أو صديقاتي خارج أسوار المدرسة. كما أنها أعادت لي الكثير من ذكريات أيام الدراسة في إيطاليا حيث كنت أرى الكثير من الأشخاص الذين يمارسون رياضة الجري إما في الصباح الباكر أو في ساعات المساء.

سألتها مرة، ما الذي يدفعك لممارسة الركض، فأسهبت في وصف ما تراه عيناها، والشعور الذي يملاء قلبها من تلك الأماكن التي تأخذها إليها ساقاها أثناء الركض، ثم قالت، لم لا تأتين معي وتختبري التجربة بنفسك. سأجرب، قلت وأنا أتذكر نمط الحياة الأوروبية الذي أحببت، فعلى الأقل هذه من العادات الحميدة التي يتمتع بها الأوروبيون.

في صباح أحد أيام الخريف من ذلك العام، وكان صباحاً جميلاً مشرقاً، وضعت حذاء الركض في قدمي وغادرت المنزل باكراً متجهة إلى منطقة جبل عمان لألتقي بميلاني لنركض معاً بحسب اتفاقنا، وصلت متأخرة بضع دقائق، أشرت إليها من بعيد وأنا أسير نحوها إشارة مني بأنني هاقد وصلت، ابتسمت عندما رأتني مقبلة نحوها وقالت، اعتقدت أنك لن تأتين، بدأت أفكر أنني سأنتظر خمسة دقائق أخرى ثم أنطلق. اعتذرت عن التأخير وقلت، لست معتادة على الاستيقاظ في مثل هذا الوقت.

انطلقنا وبدأنا الركض، ركضنا نحو عشرة كيلومترات، كنت قادرة على ركض هذه المسافة كوني كنت أمارس الركض أحياناً على التريدميل في الجيم. أنهينا ركضتنا واتجهنا لنشرب قهوتنا الصباحية في مكاننا المفضل. “ميلاني”، سألتها، “هل سبق لك وأن شاركت في سباق؟” “لا لم أفعل” أجابتني، “ولكني أعرف من عدة أصدقاء لي أنه أمر يستحق التجربة”، “ما رأيك إن فعلناها سوياً؟” سألتها مجدداً. فتحت عيناها وهي ترشف رشفة من قهوتها الساخنة، ثم قالت، أرى أنك تستمتعين برياضة الركض، يبدو لي الأمر مثيراً، سأستفسر من أحد الأصدقاء عن السباقات التي يتم تنظيمها هنا في الاردن. واتفقنا على وضع هدف جديد لنسعى نحو تحقيقه سوياً، نصف الماراثون!

عادت ميلاني بالخبر بعد يومين فقط سيتم تنظيم سباق نصف ماراثون البحر الميّت في إبريل المقبل، وهو سباق يعقد سنوياً بتنظيمٍ مؤسسة اركض للاردن Run Jordan  في شهر إبريل من كل عام. ببحث سريع على تطبيق (Nike Run Club) الذي كنا نعتمد عليه في حفظ تاريخ الركض خاصتنا، وجدنا الخطة التي سنتبعها للاستعداد لنصف الماراثون الأول في حياتنا، وبدأت الاستعدادت في يناير من العام 2017.  

أجواء باردة تحت سماء صافية، ورياح عاصفة، وأمطار غزيرة، جمعتها سماء العاصمة عمان معاً كما هي الحال في كل عام من أيام يناير، ولكنني وميلاني لم نتوقف يوماً عن الركض، كنا عاقدتين العزم على الاستعداد لسباق نصف الماراثون. شخصياً، أحببت الاستماع اثناء الركض إلى قصص ونصائح مجموعة من الرّياضيين على تطبيق “الركض الموجه بالصوت”audio-guided runs- ، فكان فيها الكثير مما يشبهني، أو يلهمني، أو حتى ينسيني التعب وبرودة الطقس، استمرينا أنا وميلاني بالتمرين وكان حماسنا يزداد أكثر فأكثر مع اقتراب إبريل.

 كنت في كل يوم أعود فيه بعد التمرين إلى منزلي متعبة مرهقة، أعد كوباً من القهوة الساخنة، وأرتدي ملابس دافئة وأجلس إلى مكتبي الصغير أخط في دفتر ملاحظاتي تجربتي الشّخصية، أضمنها العديد من الاقتباسات التّحفيزية التي أجمعها من هنا وهناك. وأتابع أخبار شخصياتي الملهمة في عالم الجري مثل العدّاءة المصرية المعروفة “منال رستم”، وأتواصل معها من خلال صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي لأعلمها عن آخر إنجازاتي واستعداداتي للسباق. أذكر كم كنت سعيدة أول مرة قامت فيها باجابتي على إحدى رسائلي قبل أن أدرك كم هي رائعة ومتواضعة بعد ردها على كل أسئلتي واستفساراتي، والنصائح الثمينة التي كانت تقدمها لي.

صفحة من دفتر ملاحظات سجى

جاء اليوم الذي انتظرته طويلاً، وكان السباق سيقام في منطقة البحر الميت التي تبعد نحو خمسين كيلومتراً عن العاصمة عمان، ولضمان أن أكون جاهزة في الموعد لخوض غمار السباق، قمت بحجز غرفة في أحد فنادق البحر الميت، واتجهت إلى هناك ظهر الخميس، لم يرافقني أحد في ذلك اليوم وكنت قد تعمدت فعل ذلك، إذ كانت مشاعري وأحاسيسي مختلفة ومختلطة، اذ كنت متحمسة بشكل كبير، متوترة بعض الشيء، لا أستطيع انتظار بزوغ نهار الجمعة ليعلن عن قدوم يوم انطلاق السباق، كان يصعب عليّ التركيز في أي حديثٍ غير حديث السباق، ولذلك فضلت أن أكون وحدي، أستجمع تركيزي وأفكر في السباق الذي انتظرته طويلاً، وما أن حل الليل حتى اتجهت إلى غرفتي وتفحصت ملابسي ومعداتي وخلدت إلى النوم آملة أن أتمكن من النوم سريعاً.

لم أكن بحاجة إلى منبه لاستيقظ، فقد استيقظت قبل نحو ساعة كاملة من موعد رنينه، نهضت من فراشي وبدأت استعداداتي، فأخيراً ها هو اليوم الذي انتظرته منذ يناير الماضي قد جاء، وما هي إلا بضع ساعات وسينطلق أول سباق أخوضه في حياتي، صحيح أنه قد سبق لي المشاركة في فعالية عشرة كيلومترات، إلا انها لم تكن سباقاً بالمعني الحقيقي، حتى اسم الفعالية كان “ركضة للمتعة” أو “Fun Run”، أما سباق اليوم فيختلف شكلاً ومضموناً عن ذلك السباق الذي شاركت فيه سابقاً، هو سباق بكل ما تحمله كلمة سباق من معنى.

فتحت حقيبتي وأخرجت منها ما اصطحبته معي من الشوفان والموز، أعددت بهما فطوراً خفيفاً قادراً على تزويدي بطاقة كبيرة، تناولته سريعاً وغادرت الغرفة إلى نقطة بداية السباق والتي لم تكن تبعد أكثر من بضع مئات من الأمتار عن مكان إقامتي. وصلت وبدأت أبحث عن صديقتي ميلاني التي كانت ستصل صباح ذلك اليوم، كدت أن أفقد الأمل في أن أجدها نظراً لكثافة أعداد المشاركين عند نقطة البداية، إلا أنني وجدتها في نهاية المطاف وبدأنا سوياً عملية الإحماء.

كان طقس ذلك اليوم حاراً، مما أضاف سبباً آخر لرغبتي بإنهاء السباق سريعاً، ركضت أنا وميلاني على نفس السرعة، وأنهينا السباق في نفس الزمن ساعتين وعشرون دقيقة تقريباً. استلمنا ميدالياتنا وتبادلنا أطراف الحديث وعدت إلى الفندق فرحة سعيدة بما قمت به من إنجاز شخصي لم أكن يوماً أتصور أنه ممكن. وقررت أنني سأدلل نفسي بفطور فاخر وكوكتيل مميز مكافاءة لنفسي على ما قدمت اليوم من جهد استثنائي، تناولت فطوري وكنت بين الحين والآخر أتفحص ميداليتي التي كانت لا تزال تتطوق عنقي منذ أن استلمتها عند خط نهاية السباق. في ذلك المساء، عدت إلى عمان وخرجت للاحتفال مع أصدقائي ووجهي يشع فخراً وفرحاً! أما الحدث الأبرز الذي تلى سباق نصف الماراثون، فكان انضمامي لمجموعة Running Amman في صيف 2018، والتي كنت قد سمعت عنها مراراً خلال مشاركاتي في سباقات Run Jordan ورأيت بعضاً منهم يلتقطون صّوراً جماعيّة عند خطوط بداية ونهاية السباق. كما أنّني تعرّفت على جوليا أحد عدائي الفريق والتي كانت أيضاً صديقة ميلاني، أذكر جيداً أول ركضة قمت بها مع المجموعة في شهر مايو من ذلك العام في منطقة عبدون وكيف كان أدائي فيها، وكيف أنني مع مرور الوقت، قطعت شوطاً كبيراً مع رياضة الركض نتيجة الدعم الذي حظيت به من أفراد المجموعة!

سجى لحظة وصولها الى خط نهاية نصف ماراثون البحر الميت

نهاية الجزء الاول من القصة، تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي للمتابعة الجزء الثاني من القصة الاسبوع المقبل.

اقرأ ايضاً على موقع اركض، الرياضة عشق