انه يناير من العام 2011، وصلت الى مكتبي في صباح يوم بارد ماطر، خلعت معطفي وفتحت جهاز كمبيوتري، على الفور لفت انتباهي رسالة الكترونية من فريق خدمة المجتمع بالشركة تحمل عنوان “المشاركة في سباق البحر الميت الى البحر الاحمر –Dead2Red-“، فتحتها على الفور فكانت اعلاناً عن تشكيل فريقين لذلك السباق، الفريق الاول وسيضم في صفوفه العدائين الاقوى والاسرع والقادر على المنافسة على المراكز المتقدمة، والثاني سيضم عدائي الصف الثاني ممن سيتم اختيارهم، تم اختياري وتحقق الحلم بركض ذلك السباق المميز، كنت انا من ضمن الفريق الثاني، انهينا السباق في مركز متأخر، ولكن لا بأس، فقد ركضت نحو خمس وعشرون كيلومتراً ولم يعلم احد بانني كنت اركض وانا مصحوباً بالم ووجع، فقد كان كل ما كنت اسعى اليه هو المشاركة في هذا السباق.

في ذلك العام وضعت هدفاً لنفسي لتحسين مستواي في رياضة الركض، كان هدفي هو المشاركة من ضمن الفريق الاول في سباق العام القادم، بدأت بممارسة الركض بشكل اكثر انتظاماً، وضعت جدولاً واتبعته بحذافيره بغض النظر عن اية صعوبات او عقبات، تحسنت حالي وعادت الى ما كانت عليه طبيعية تماماً بفضل من الله، وكانت نتائج الفحوصات وصور الاشعة تفيد بانها كذلك.

سباق Dead2red الذي طالما حلم اسامة بركضه متوجاً بميدالية انهائه

جاء العام التالي وقامت الشركة بتنظيم اختبارات القدرة والسرعة لاختيار فريق واحد فقط للمشاركة في سباق البحر الميت الى البحر الاحمر، وبعد فترة من الاستعداد والتمارين، كان سباق عشرة كيلومترات هو الحكم في اختيار اعضاء الفريق، حللت سادساً وتم اختياري للمشاركة مع الفريق، كان معظم اعضائه من الاجانب المتمرسين على رياضة الجري. صعوبات جمة واجهها فريقنا في سباق ذلك العام، اصيب اربعة من اعضاء الفريق واحد تلو الاخر خلال المائة كيلومتر الاولى، فكان على بقية اعضاء الفريق الستة ركض المائة واربعون كيلومتراً المتبقية، حللنا في المركز الخامس.

مرحلة جديدة

استقلت من الشركة وفقدت بتلك الاستقالة ميزة التدريب مع اعضاء الفريق، فكان لابد من ممارسة الركض وحدي مجدداً، ولكن مرة الى مرتين على الاكثر في الشهر، حتى صدفت مجموعة تقوم بالجري في المدينة الرياضية فعرفت انهم اعضاء فريق اركض للاردن Run Jordan، فانضممت اليهم وعدت لممارسة الركض يومان اسبوعياً، كما عدت معهم للمشاركة في السباقات المحلية.

تعلمت الكثير عن الركض من اعضاء هذا الفريق، فمنهم تعلمت تمارين التحمل وتمارين السرعة، ومنهم تعلمت ما يجب ان ترتديه عند الخروج للركض صيفاً وشتاءً، ومنهم تعلمت كيف اختار احذية الركض المناسبة، ولكن بقيت اشارك في سباقات العشرة كيلومترات التي يتم تنظيمها في داخل الاردن.

في ديسمبر من العام 2016 كان موعد سباقي لمسافة عشرة كيلومترات في مدينة العقبة، وقبل ايام قليلة من موعد انطلاق السباق كنت اناقش مواضيع الركض والسباقات مع احد اصدقائي العدائين واسمه عزالدين، والذي اخذ باقناعي بتغيير سباقي من عشرة كيلومترات الى نصف ماراثون، صحيح انني كنت قد ركضت سباق البحر الميت الى البحر الاحمر وصحيح ان مجموع ما ركضته في ذلك السباق قد يكون احياناً تجاوز الثلاثون كيلومتراً، ولكنها كانت متقطعة ومقسمة الى اجزاء صغيرة، ولم يسبق لي ان ركضت واحداً وعشرون كيلومتراً متواصلة، ترددت قليلاً ثم قررت انني سأشارك في نصف الماراثون بغض النظر عن الزمن، كان هدفي انجاز والوصول الى خط النهاية.

شاركت في السباق وانهيت المسافة كاملة في ساعة وثمان وخمسون دقيقة، ولمن لا يعرف فان انهاء السباق في اقل من ساعتين للمبتدئين يعتبر امراً جيداً جداً، عزز ذلك من ثقتي بنفسي ولم اشارك بعدها في اي سباق لمسافة تقل عن نصف الماراثون، وفي كل مرة كنت اشارك فيها في سباق جديد كان التحدي هو انهاء السباق بشكل وزمن افضل من سابقيه.

في العام 2017 وجدت على موقع فيسبوك مجموعة Running Amman، كانوا ومازالوا يقومون بالركض كمجموعة ثلاث مرات اسبوعياً، التحقت باحد ركضاتهم وركضت معهم مسافة خمسة كيلومترات، سعدت بتلك التجربة وبدأت التحق بركضات المجموعة كلما اتيحت لي الفرصة.

المسافات الطويلة

في احد سباقات نصف الماراثون في العام 2018 في صحراء وادي رم، وبعد ان انهيت سباقاً في غاية الصعوبة نظراً لركض المسافة كاملة على رمال الصحراء التي تزيد من صعوبة الجري نظراً للمقاومة العالية، تعرفت الى صبية تدعى الآء، آلاء هذه عداءة متميزة، قوية، سريعة، وبطلة سباقات الالترا ماراثون لمسافة مائة كيلومتر في عدة سباقات محلية ودولية، أخبرتها برغبتي بركض مسافات اطول وان طموحي في ذلك الوقت هو ركض ثلاثون كيلومتراً، فبدأنا سوياً نركض  في ساعات الفجر، وفي كل مرة كانت آلاء تسدي لي بنصائح ومعلومات طورت مستواي بشكل لافت، كما قامت باهدائي حقيبة مخصصة لرياضة الركض تستخدم بشكل اساسي لحمل المياه اثناء الجري لمسافات طويلة للحفاظ على رطوبة الجسم.

بعد ان انهينا مسافة ثلاثين كيلومتراً عدة مرات بدأنا بالاستعداد للهدف التالي وهو اثنان واربعون كيلومتراً (الماراثون)، كان الهدف هو المشاركة في ماراثون بيروت نهايات العام 2019،

سبتمبر 2019، بدأت الاستعدادات للسفر لبيروت بالركض بشكل اكثر انتظاماً، وشاركت بتحد جديد ينظم لأول مرة في الاردن، وهو الصعود الى اعلى برج في الاردن، برج روتانا، والمشكل من اثنان واربعون طابقاً، تتضمن نحو تسعمائة وخمسون درجة، وحصلت على المركز الخامس بزمن سبعة دقائق وثلاثون ثانية، كما شاركت مرة اخرى في سباق البحر الميت الى البحر الاحمر مع مجموعة Running Amman، كانت هذه هي المرة الثالثة التي اخوض فيها هذه التجربة، وتميزت عن سابقاتها بانها كانت اكثر اثارة وروعة، اكسبتني خبرة مختلفة عن سابقاتها، بل بدت وكأنها المرة الاولى من حيث المتعة والاثارة والمنافسة القوية، بدأنا في الرابعة من عصر يوم الخميس من البحر الميت حتى ظهر يوم الجمعة في مدينة العقبة، واخر الاستعدادات كانت المشاركة بعدها بأسبوع واحد في نصف ماراثون عمان تمهيدا للسفر. مع اقتراب موعد السفر الى بيروت وبعد ان قمت بتجهيز معظم ما كنت احتاجه للسفر، تم الغاء السباق، اعتقد انه من السهل معرفة ما يمكن ان يشعر به المرء في حال كهذه، انه الشعور بالاستياء، بل قل بالاحباط.

تحدثت الى الآء واخبرتها بما اشهر به نحو الغاء السباق، فطيبت خاطري وقالت لا عليك، السباقات كثيرة، ما رأيك بماراثون مالطا، سيقام بعد نحو ثلاثة اشهر، واصبح هدفنا التالي هو المشاركة في ماراثون مالطا في مارس 2020، وصادف ان مجموعة Running Amman ستشارك بفريق مكون من اكثر من عشرون عداءً.

الماراثون

مرت الايام وجاء موعد السباق، كان هدفي انهاء مسافة الماراثون دون النظر الى الزمن، ولذلك لم احمل معي الى السباق هاتفاً نقالاً او ساعة رياضية، لا اريد ان اعرف الزمن، اريد فقط ان استمتع بالسباق وان انهي المسافة كاملة، كنت اعلم مسبقاً من خلال مشاركاتي في سباقات نصف الماراثون السابقة ومن نصائح الاصدقاء انه يتوجب علي ان لا انجرف الى بداية قوية سريعة، فهذا خطأ يقع فيه الكثيرين حتى من اصحاب الخبرة والتجارب.

بدأ السباق، وكان المنظمون قد ادخلوا الى السباق عدائين يحملون بالونات ملونة تحمل الزمن الذي سينهون فيه السباق، يطلق عليهم محددي السرعة او الارانب، بعد ان قطعت مسافة خمسة عشر كيلومتراً كنت اشعر بانني اتمتع بقوة لا بأس بها وكان امامي بخطوات محدد السرعة الذي سينهي السباق في ثلاث ساعات ونصف، فقررت ان أتبعه، سيكون من الرائع ان انهي اول سباق ماراثون في حياتي بذلك الزمن، بضعة كيلومترات معه وبدأت اشعر انني لم اعد قادراً على مجاراته.

دقائق معدودة في الكيلومتر الثلاثين ومر بجانبي الارنب الذي سينهي السباق في ثلاث ساعات وخمس واربعون دقيقة، فتبعته وقلت لنفسي ان هذا هو الزمن الذي سانهي به السباق، الا ان عزيمتي تراجعت بشدة عند الكيلومتر الخامس والثلاثين وبدأت اشعر بانني لم اعد استطيع الاستمرار بالركض، دقائق قليلة اخرى ومر من جانبي محدد السرعة الذي يحمل بالون الساعات الاربع، ولكني لم اكن قادراً على مجاراته فتركته يمر بجانبي دون اكتراث، حتى انني اضطررت للمشي، كنت في الكيلومتر الثامن بعد الثلاثين، اركض خطوات قليلة وامشي خطوات اكثر، مر بجانبي شاب وفتاة يركضون بوتيرة هادئة فامسكوا بيدي واخذوا يحثونني على الركض، حتى ان المشجعين اخذوا يحثونني على الركض ايضاً، ومن تتوقعون انه مر بجانبي في تلك اللحظة، نعم هو، مر بجانبي الارنب صاحب البالون الذي يحمل زمن الاربع ساعات وخمسة عشر دقيقة، ركضت متثاقلاً حتى لاح طيف خط النهاية من بعيد، كان ذلك المشهد هو ما اعاد لي الطاقة من جديد ولو جزء يسير منها، فاخذت اركض واركض حتى انهيت السباق في اربع ساعات وخمسة عشر دقيقة.

اليوم عندما اشارك ركضاتي على صفحاتي على وسائل التواصل الاجتماعي سواء كنت وحدي او مع مجموعة Running Amman، اتلقى العديد من الرسائل من اصدقائي الذين يرغبون بالبدء بممارسة رياضة الجري ولكنهم يخشون اما اخذ المبادرة للبدء او يخشون الركض معي لأنني اركض مسافات طويلة، ولكنني دائماً ما ارد عليهم بانه في حال انضمامهم لي سأرافقهم في ركضة يستطيعون انهائها وبسرعة تتناسب مع سرعاتهم لأساعدهم على البدء بنشاطهم الرياضي واقدم لهم النصائح التي تساعدهم على الاستمرار في رياضة الجري.

في النهاية اقول، لكل منا طموح ورغبات واهداف، كلها يمكن تحقيقها، فبالارادة فقط اصبحت رياضة الجري جزءاً اساسياً من حياتي واولوية تفوق باهميتها الخروج مع الاصدقاء ولقاء الاحبة، الركض اليوم هو متنفسي وملجأي بعد يوم عمل سعيداً كان ام عصيباً، ماطراً او مشرقاً، وسأبقى عازماً على الاستمرار بهذه الرياضة وتحقيق انجازات جديدة والمشاركة في سابقات اخرى محلية ودولية.

اقرأ الجزء الاول من قصة أسامة مع الركض، إرادة في رحم الألم