.واحد وعشرون ادمان

انه مايو من العام 2018، سمعت من احدى الصديقات في نشاط الدراجات ان هناك مجموعة تنظم عدة ركضات في الاسبوع تدعى Running Amman، استهوتني الفكرة واخذت ابحث عنهم على وسائل التواصل الاجتماعي، تواصلت معهم واستفسرت عن امكانية انضمامي اليهم فوجدتهم مرحبين، ولانني اخبرتهم عن مدى بطء سرعتي، دعوني لمشاركتهم احدى ركضاتهم في مضمار ملعب رياضي حتى لا افقد اثرهم. ذهبت الى المضمار وتعرفت على مجموعة منهم وركضت مع احد اعضاء المجموعة الاجانب يدعى جيري، ركضنا سوية عشرة كيلومترات لم اشعر خلالها بالتعب، فركضت مع المجموعة بعدها في منطقة جبل اللويبدة، وكما كان متوقعاً ضللت طريق العودة، حتى انني حظيت بتصفيق حار من اعضاء المجموعة حين وصلت الى نقطة النهاية، ثم توجهنا جميعاً لاحتساء كوب من القهوة في احد المقاهي القريبة، استهوتني فكرة الركض مع المجموعة والالتزام بعدد من التمارين الاسبوعية، فانتظمت بالركض معهم.

في مساء احد ايام الخميس من ايام اغسطس الحارة من ذلك العام، عدت من عملي الى المنزل مجهدة من ضغوط العمل، فقررت الخروج للركض، دون تخطيط او تفكير، ارتديت ملابسي الرياضية وخرجت، ركضت على الارصفة من شارع الى شارع تجنباً لمخاطر ازدحام السيارات في عطلة نهاية الاسبوع، وعدت بعدها الى المنزل بعد ان ركضت مسافة واحد وعشرون كيلومتراً خلال ساعتان وستة عشر دقيقة، وهو فارق شاسع عن اي زمن حققته من قبل، كانت هذه اول مرة اركض فيها نصف ماراثون دون توقف.

ثم جاء اكتوبر، وعاد حماس السباقات بعد انقطاع لفترة لم تكن بالقصيرة، شاركت في سباق نصف ماراثون عمان برفقة مجموعة Running Amman، كانت تجربة السباق برفقتهم مختلفة تماماً عن سابقاتها، كان فيها الكثير من مظاهر الاحتفال والصور بعد انتهاء السباق، والكثير من التشجيع والحماس من افراد الفريق لبعضهم البعض، كانت بالفعل تجربة فريدة، ميزها الحماس والتشجيع خلال فعاليات التتويج، وفرحة جميع العدائين من كافة الفئات العمرية والقدرات الجسدية والذهنية المتفاوتة بانجازاتهم، اما صديقتي منى فقررت هذه المرة الاستمتاع بسباق العشرة كيلومترات.

الاستحقاق التالي كان سباق دراجات هوائية لمسافة مائة كيلومتر، كنت في غاية الحماس وانا انتظر اول مشاركة لي في سباق دراجات، وخصوصا اني كنت اول فتاة تسجل للسباق عن فئة الدراجة الجبلية لذلك العام، ولكن للاسف كما يقول المثل “الحلو ما يكمل” اذ انني وفي نشاط غير رياضي تعثرت ووقعت فكسرت اصابع يدي اليسرى فاصبحت اسيرة الجبس، لم يكن ممكناً بحسب رأي الطبيب ان اشارك في سباق الدراجات، ولكنه سمح لي بالمشاركة في سباق نصف ماراثون ايلة، على ان اكون في غاية الحذر، لان اي سقوط خلال الجري قد يكون له توابع جد سلبية على ذراعي المجبرة، لم ارغب بتفويت الفرصة، ولذلك قررت ان اخوض تمريناً قبل السباق لتجربة الركض مع الجبس، بدأت الركض وشعرت بالخدر يسيطر على ذراعي، استمريت، ركضت دون ان اعيرها اهتماماً حتى زال خدرانها، ولتكتمل فرحة ذلك اليوم، حققت رقماً شخصياً جديداً في ركض مسافة العشرة كيلومترات، منحني ذلك دفعة كبيرة للمشاركة في سباق نصف الماراثون مع مجموعة Running Amman التي اصبحت عائلتي الثانية، عائلتي التي تحب رياضة الركض وتشجعها، على عكس عائلتي الصغيرة الذين لا ينفكون يتساءلون لماذا اركض هذه المسافات الطويلة.

ثم جاء العام 2019، وكان لابد من اجراء عملية جراحية في يدي وزرع قضبان معدنية، فتوقفت عن الركض لفترة تقارب الشهرين ونصف، ولكن ذلك لم يمنعني من المشاركة في سباق نصف ماراثون البحر الميت وتحقيق رقم شخصي جديد لهذه المسافة، كان الفارق في الزمن بين سباقي البحر الميت 2018 و2019، بحدود ساعة واحدة وبضعة دقائق. ثم اخذني الحماس ذلك العام وقررت ان اشارك في سباق القمر المكتمل في وادي رم “Full Moon Marathon” وهي واحدة من اجمل التجارب التي يمكن للرياضي ان يخوضها، فممارسة الركض بحد ذاته متعة لا حدود لها، ولكن ان تركض في الصحراء في ساعات الليل وتحت ضوء القمر المكتمل، مرتدياً مصباحاً رأسياً وجوارب طويلة فوق حذاء الركض، فهذا ما يضيف لها الكثير من الاثارة والجمال والخصوصية، واصبحت رغبتي في المشاركة باكبر عدد من السباقات اشبه بنوع من الادمان! ففي نفس العام شاركت ايضاً في سباق نصف الماراثون في صحراء البتراء Petra Desert Marathon، وهو سباق اخر احث الجميع على المشاركة به، فبالرغم من صعوبته فهو تجربة فريدة لا يمكن ان تصفها الكلمات.

مع اقتراب نهاية عام 2019، قررت مجموعة من اعضاء فريق Running Amman المشاركة في سباق ماراثون مالطا، لم اكن متأكدة من رغبتي في المشاركة، ولكني ما ان علمت ان صديقتي سجى قد سجلت لركض مسافة ماراثون كامل، حتى اكدت مشاركتي مع اعضاء الفريق في تلك الرحلة، اردت ان اتواجد على خط نهاية السباق لاشجعها لحظة وصولها واكون من اوائل المهنئين لها هناك في مالطا. شاركت في سباق نصف الماراثون ووصلت الى خط النهاية قبل ان تصل هي الى نهاية السباق، كنا نقوم بالتشجيع لاي فرد من افراد الفريق يصل الى خط النهاية، نلتقط الصور ونهتف ونغني فرحاً بانجازهم لسباق يمتد الى اثنان واربعون كيلومتراً، اما سجى، فقد حظيت بهتاف اكبر، وتشجيع لم يحظى به من سبقها. كانت رؤية افراد الفريق وهم يقطعون الامتار الاخيرة من سباق الماراثون، وخصوصاً اولئك الذين كانوا يركضون اول ماراثون على الاطلاق، يبعث في نفسي املاً وحماساً بانني يوماً ما ربما سأكون انا من اولئك المتسابقين الذين يصلون الى خط نهاية سباق الماراثون.

شاءت الظروف ان يكون سباق مالطا السباق الاخير لعام 2020، حيث تم فرض حظر التجوال في العاصمة عمان لمنع انتشار فيروس كورونا، وعلى اثر انتهاء ذلك الحظر بعد نحو شهرين من الحجر المنزلي، حيث كان حماسي لرياضة الركض قد اخذ بالتراجع، حتى قامت مجموعة Running Amman بتنظيم حدث رياضي افتراضي، تم خلاله تقسيم المشاركين الى نحو عشرة فرق يتكون كل منها من خمسة او ستة عدائين، يقوم كل منهم بركض مسافات او دقائق محددة اجبارية على مدار اسبوع كامل، ومسافات اخرى اختيارية ان اراد كسب المزيد من النقاط لفريقه، جاء هذا السباق في انسب وقت ممكن، حيث جاء خلال اسبوع تتالت فيه الاخبار السلبية على الصعيد الشخصي والعالمي، فكان للسباق اثراً ايجابياً بالغاً لشغل نفسي عما يدور من حولي، وفي اليوم الاخير من ايام السباق تراكمت الضغوطات التي جعلتني اشك في قدرتي على القيام بركض مسافة طويلة على غرار اعضاء الفريق، ولانني لم اشـأ ان اخذلهم، قررت تقسيم ركضاتي الى اربعة، خمسة كيلومترات لكل منها، على ان افكر بامر ايجابي واحد خلال كل كيلومتر، وضعت لائحة من الافكار الايجابية، ودونتها على ذراعي لاتذكرها اثناء الركض، كانت تجربة حملت الكثير من الايجابيات على مساري الرياضي والاجتماعي، وساعدتني على تصفية ذهني واعادة حساباتي وتركيزي الى الامور الاكثر اهمية.

لم اكن اريد لذلك الحدث الرياضي ان ينتهي، استمتعت بكل لحظة من لحظاته، ولذلك وبعد ان انتهى الحدث، قررت انني ساستمر في الركض، وانني ساركض بشكل يومي لمدة شهر كامل ولمسافة لا تقل عن خمسة كيلومترات يوميا، كان شهراً في غاية المتعة، كنت احدد يومياً مكاناً جديداً لاركض فيه، انظر الى الخريطة باحثة عن مكان تكثر فيه الخضرة، او منطقة غير مألوفة، وما ان علم اصدقائي بانني اركض يومياً حتى تشجع بعضهم لمشاركتي بركض مسافة خمسة كيلومترات لاول مرة في حياتهم، كما ان بعضاً من طلابي شاركوني الركض ايضاً! تميزت الركضات بعفويتها وتنوع اماكنها والاشخاص الذين شاركوني بها، اما اكثر ما شجعني على الاستمرار ببرنامج ركضي اليومي فكان انضمام صديقي شادي الي في اليوم الثالث.

مرت تلك الايام سريعة على كلانا، اذ ما ان جائت الركضة الحادية والثلاثون حتى شعرنا بحزن شديد وكاننا نودع احد احبائنا، لا شهراً ركضنا كل ايامه، لم نكن نريد لتلك المتعة ان تنتهي، فما كان منا الا ان قررنا الاستمرار لايام اخرى، وظلت تلك الايام تمتد وتمتد حتى وصلت الى المائة، مئة يوم من الركض المتواصل ختمناها بركض مسافة واحد وعشرون كيلومتراً لتكون حفل ختام ذلك الحدث الرياضي المميز، لم اكن متأكدة من قدرتي على انجازه دون اي اصابات، ولكن المفاجأة كانت بانني شعرت يومها بطاقة غير اعتيادية، فقررت الركض يومان اضافيان برفقة شادي حتى ينهي ركضاته المئة، ليصل عدد ايام ركضي المستمر الى مائة واثنان، في مساء ذلك اليوم تحدثت الى نفسي ورجوتها ان لا تطلب مني الاستمرار بالركض للوصول الى مئتي يوم، وهذا ما كان.

اليوم، وبعد هذه الرحلة مع الرياضة، فان ما يجعلني استمر بالركض هو تركيز اهتمامي على الاستمتاع بها، الاستمتاع بكل ركضة، وكل انجاز، دون مقارنة نفسي بغيري، واتذكر كيف كان الركض وسيكون علاجي في وقت ضيقي، ومصدر طاقتي، ودليلي الملموس ان العمر ليس المحدد الوحيد لصحة الانسان.

 كانت هذه قصة جوليا مع الركض والرياضة، ولكن جوليا ليست رياضية وعدائة فحسب، بل مبدعة ايضاً. ففي عام 2019 لم تتمكن من المشاركة في سباق ماراثون عمان لاصابة المت بها قبل السباق بعدة ايام، ولانها جوليا، ولانها ذات شخصية فريدة، لم تقبل بان يفوتها ذلك السباق دون ان تترك بصمتها، جمعت افكارها وحملت قلمها وخطت عبارات التشجيع لافراد فريقها، كانت اول المتواجدين على مسار السباق يومها، ترفع عباراتها المميزة لكل المشاركين، تشجعهم وتحفزهم على الاستمرار، يومها لم اكن اعرفها ولكنها لفتت انتباهي وانتباه جميع المشاركين بما قامت به، سألتها وقت كتابة سطور هذه القصة، كيف خطر لك فعل ذلك، وكيف استطعت الاستمرار وقد كنت المشجعة الوحيدة على مسار السباق، لم تكن فقط ترغب بالمشاركة في السباق وان كانت مشجعة وليست عدائة، بل انها تريد ايضاً ان تنشر ثقافة في ملاعبنا واحداثنا الرياضية، تحث على التشجيع ومؤازرة الرياضيين.

امر اخر لا يقل تميزاً قامت به عدائتنا الاستثنائية، فخلال فترة اعياد الميلاد المجيد عام 2019، ولظروف خاصة بها، ارادت ان تقدم لافراد اسرتها هدية متميزة من بنات افكارها ووحي رياضتها، فقامت بعدد من الركضات في شوارع مدينة عمان، مشكلة من خرائط تتبع المسار على نظام تتبع المواقع (GPS) رسومات واشكال خاصة لفترة الاعياد، ولاننا في هذه الايام نقترب من عيد الميلاد المجيد، نقول لجوليا ولكل المحتفلين بالعيد المجيد “كل عام وانتم واحبائكم جميعاً بكل الخير”.  

 اقرأ الجزء الاول من قصة جوليا مع الركض ثلاثون ويوم