جاء شتاء العام ٢٠٠٦ وجاءت معه أجوائه الباردة، ولم يعد ممكناً ممارسة كرة السلة خارجاً كما كان يحدث في الصيف، وبدأت التفكير في الخيارات المتاحة أمامي للحفاظ على المكتسبات التي احدثتها خلال عطلة الصيف، قررت تكثيف ممارسة الرياضة في الجيم، بدى لي ذلك هو الخيار الأفضل خلال شتاء عمان البارد.  وبدأت بالمشي على التريدميل ، وسريعاً تحول المشي إلى هرولة، وشيئاً فشيئاً ازداد وقت الهرولة حتى تحولت إلى هرولة بالكامل، زادت سرعتي وقوة تحملي واصبحت أركض بسرعة اثني عشر كيلومتراً في الساعة كل ذلك على جهاز الركض التريدميل ، في نوفمبر من ذلك العام ركضت أول عشرة كيلومترات متواصلة ايضاً على التريدميل ، فرق شاسع أحدثته تلك الإرادة .

أحببت الركض وعشقت أثره على مظهري الخارجي الذي انعكس سلاماً وجمالاً في داخلي، أحببت الروح المرحة التي عادت إلي، وعشقت الثقة بالنفس التي كنت قد ودعتها من سنوات طويلة وها هي قد عادت تملأ كل قطرة من قطرات دمي، قررت أنني سأستمر في الركض، وكوني كنت اركض على جهاز التريدميل بدأت أتابع أفلاماً خلال الركض لتنسيني التعب الجسدي الذي كنت أحاول جاهداً تجاهله، حتى أنني أذكر كيف أنني ركضت لمدة ساعة ونصف دون توقف وأنا احضر أكثر الأفلام أثارة وتشويقاً، واستمريت على هذا المنوال حتى سجلت في سباق نصف ماراثون البحر الميت في إبريل من العام 2007.

علاء منصور في اول مشاركة له في سباق رسمي

بالرغم من أنه كان أول سباق رسمي أخوضه في حياتي، وأن أطول مسافة كنت قد قمت بركضها على اجهزة التريدميل سابقاً كانت ثلاثة عشر كيلومتراً، إلا أنني انهيت السباق ضمن أول خمسين متسابقاً وصلوا إلى خط النهاية، من أصل نحو خمسمائة وخمسون متسابقاً، كنت في غاية السعادة وأنا أرى أن ما سعيت نحوه قد تحقق، وعلى أثر ذلك السباق قررت أنني أريد الاستمرار في رياضة الركض، كنت حقاً ممتناً لجهاز التريدميل.

خط نهاية السباق الذي حل فيه علاء ضمن اول خمسين متسابقاً

ودعت التريدميل وبدأت أركض في الشارع، بدأت الركض في الحي الذي أسكن فيه، ثم الأحياء المجاورة، ثم بدأت ساقاي تأخذانني إلى أماكن أبعد، كنت استمتع بوقتي فعلاً في كل مرة كنت أركض فيها، حيث كنت اطلع على أماكن لم أكن لاكتشفها دون الركض.

أصبح الركض دليلاً سياحياً لاستكشاف معالم أي بلد أسافر إليه ، أركض مرة واحدة على الاقل في الأسبوع لمسافة خمسة عشر إلى عشرون كيلومتراً لأرى حواري وأزقة لم أكن لأصلها لولا أنني أركض، التقط الصور هنا وهناك واجمع أرثاً سياحياً سيبقى معي أبد الدهر. 

في مايو من العام 2013، كنت بصدد التقدم لامتحاناتي الجامعية، وقمت بعزل نفسي في شقة غير مسكونة بهدف التركيز على الدراسة، كنت لا أتوقف عن الدراسة إلا لتناول طعامي أو الذهاب إلى الجيم، ونظراً لكثافة التمارين، حدث في أحد الأيام أن قمت بتمرين بطريقة خاطئة أدى إلى إصابة شديدة أسفل ظهري، راجعت أحد الأطباء، وتم تشخيص الحالة بأنها ديسك في أسفل الظهر، لازال يلازمني حتى اليوم، يشتد في أيام الشتاء الباردة ليمنعني من ممارسة الرياضة ويزيد من وزني بمعدل سبعة كيلوغرامات سنوياً، اتخلص منها عند حلول الصيف حين يخف الألم من دفء الأجواء التي ترافق أيامه.

كما يقول المثل، رب ضارة نافعة، تلك الاصابة دفعتني للبحث عن بديل جديد للاستمرار في ممارسة النشاط الرياضي، كانت السباحة هي الخيار الامثل الذي اشعر فيه براحة تامة من الم الديسك، وبدأت اتررد على بركة السباحة بشكل مستمر، حتى اصبحت سباحاً ماهراً.

مرت الأيام وعاودت ممارسة رياضة الجري وحدي، كنت دائماً أحاول أن أعظم الفائدة من وقت الجري وهذا ما دفعني لبدء الاستماع إلى كتب الكترونية، وأصبحت الفائدة جسدية وعقلية. حتى جاء يوماً اعتبره أحد أفضل أيامي في رحلتي مع الركض، إذ أنني كنت في حديث مع أحد الأصدقاء الأجانب التي كانت تقيم وتدرس في عمان، أخذنا الحديث إلى رياضة الجري، فسألتني لماذا لا تأتي للركض معنا في مجموعة Running Amman، فقلت، لم يسبق لي أن ركضت مع مجموعة من قبل، يبدو لي الأمر مثيراً للاهتمام، بكل تأكيد لا مانع لدي من التجربة، سأنضم لكم في ركضتكم القادمة.

اذكر ذلك اليوم تماماً، كان يوم الجمعة السادس والعشرين من مايو عام 2017، استيقظت مبكراً وذهبت الى مكان تجمع تلك المجموعة، تحدثت الى مؤسسها وبعض أفرادها حتى حان موعد انطلاق تلك الركضة، ركضنا نحو عشرة كيلومترات وبعد أن انتهينا توجهنا إلى أحد مقاهي المدينة لتناول كوب من القهوة، كانت قهوة مميزة لم أعرف سر تميزها، أهي القهوة بحد ذاتها كانت مميزة، أم أن الشعور الذي كنت أتمتع به في تلك اللحظة هو ما جعلها تبدو بذلك التميز، أحببت تلك المجموعة وأحببت أعضائها، كيف لم يخطر لي من قبل ان أبحث عن مجموعة لأركض معها، أما واني اليوم قد وجدتها فإنني لن أتوقف عن الركض معهم أبداً، هكذا فكرت، وهكذا قررت انضمامي لهذه المجموعة.

اول صورة لعلاء منصور مع مجموعة Running Amman

انضمامي لفريق Running Amman كان له اثراً كبيراً على ممارستي لرياضة الركض، اكتشفت حال انضمامي إليهم أن علمي ومعرفتي برياضة الركض كانت قريبة من الصفر، لم أكن أعلم ولم أكن أتخيل أن وراء تلك الرياضة علم، علم حقيقي كامل، ولم أكن أعرف أن ذلك العلم يمكن أن ينقل ممارس رياضة الركض إلى مراحل أبعد بكثير مما كان عليه من قبل، لم يكن أعضاء المجموعة بالنسبة لي رياضيين أذكياء فحسب، بل الأهم من ذلك أنهم كانوا مصدر إلهام بالنسبة لي، تعلمت منهم الكثير، واختلاطي بهم زاد من رغبتي بتطوير نفسي في رياضة الجري، وانعكس ذلك ايجاباً على قوة تحملي وسرعتي في هذه الرياضة.  

حتى اليوم، وبالرغم من أنني أمارس رياضة الجري منذ نحو ثلاثة عشر عاماً، إلا أنني لم أقم بركض ماراثون كامل، لا اعتقد أن ذلك يعيب ممارس رياضة الجري، فهي رياضة تحتوي على تخصصات أيضاً، ففيها المسافات القصيرة، المتوسطة، والطويلة، فعدائي المسافات الطويلة لهم أجساد نحيلة تشبه إلى حد ما أجساد لاعبي كرة القدم، أما لاعبي كرة السلة من أمثالي فيشبهون عدائي المسافات القصيرة الذين يتمتعون ببنية عضلية وهذا هو المظهر الذي اراه يناسبني.

ومع هذا كانت لي تجربة ركض سباق ماراثون واحد، حين اتفق مجموعة من عدائي Running Amman على المشاركة في ماراثون مالطا، وبالطبع بحكم أنني أحد قدامى أعضاء المجموعة قررت المشاركة معهم وقمت بالتسجيل لركض أول سباق ماراثون في حياتي، وبدأت الاستعداد من خلال إجراء التمارين اللازمة وبحسب خطة مدروسة قمت بوضعها بالتنسيق مع زملائي، بعد فترة قصيرة من بدء التمارين بدأت اشعر بآلام في الركبة، اعتقدت في بادئ الأمر أن المسألة تتعلق بحمل التمارين وأنني  فقط بحاجة إلى الراحة، توقفت عن الركض لأيام قليلة، وما أن عاودت التمارين حتى عاد لي الألم وبنفس الشدة، ما استدعى مراجعة الطبيب للتحقق من سبب ذلك الألم، حيث أعلمني الطبيب حينها بأنني أعاني من التهاب الشريط الحرقفي الظنبوبي (inflamed iliotibial band – ITBS) وهو ببساطة التهاب الأنسجة أسفل شريط يمتد من الحوض حتى قصبة الساق، ينتج عن احتكاك ما بين الشريط وجزء بارز أسفل عظمة الفخذ، حاولت أن أعاود التمارين إلا أنني في كل مرة كنت أحاول فيها لا استطيع إكمال التمرين من شدة الألم، اضطررت للتوقف عن التمارين كلياً لعل ذلك الألم يزول قبل موعد انطلاق الماراثون.

جاء وقت السفر، وبإمكاني القول بأنني لم أكن مستعداً للسباق أبداً، ومع ذلك سافرت وقررت أنني سأخوض ذلك السباق، لعل رفقة الزملاء والأصدقاء تدفعني لإنهائه، وها هي إصابتي قد تحسنت بشكل ملحوظ بعد أن منحتها قسطاً جيداً من الراحة.

جزء من فريق Running Amman الذي انهى الماراثون ويظهر علاء دون ميدالية نظراً لاضطراره للانسحاب نتيجة الاصابة

بدأ السباق وبدأت مع المتسابقين بالجري، وما أن بدأ حتى بدأت أشعر بألم طفيف، استمريت بالجري، حتى بلغت الكيلومتر السادس حيث أصبح الألم يزداد، استمريت بالجري وفي كل خطوة كنت أخطوها كان الألم يزداد ويزداد، بلغت الكيلومتر العاشر وأصبح الألم قوياً، بدأ العداؤون بتجاوزي حيث انخفضت سرعتي بشكل واضح، ومع ذلك كنت عاقداً العزم على الاستمرار وإنهاء السباق، تجاوزني معظم العداؤون وأنا أحاول وأحاول، حتى بلغت الكيلومتر السادس عشر، ولم أستطع أن أخطو بعدها خطوة إضافية واحدة، نظرت خلفي وإذ بي الأخير، لا أحد خلفي، لا أستطيع حتى أن أدوس على قدمي، ولا هي ساقي  قادرة على حملي، جاءني بعض المسعفون وسألوني هل أنت بخير، ولكني والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه لم أكن بخير أبداً، كنت اشعر بالم شديد لا يحتمل، حملوني إلى سيارة الإسعاف، وأجروا لي بعض الإسعافات الأولية وسكنوا الألم بالمسكنات الموضعية.

علاء قبل نقله في سيارة الاسعاف

حزنت كوني لم أستطع إنهاء السباق، ولكني وبرغم ألمي غادرت سيارة الإسعاف بعد أن أكدت لهم أنني بخير لاتجه إلى خط النهاية، كنت اريد ان اشارك اصدقائي فرحتهم بانهاء السباق، التقطت كثيرا من الصور لحظة وصولهم خط النهاية، كنت في غاية السعادة وانا أراهم يعبرون ذلك الخط ليضيفوا انجازاً جديداً لسجلاتهم، كن اشعر وكأني في داخل كل واحد منهم، سأحتفظ بتلك الصور ذكرى جميلة، لسباق لم يكتب لي أن أنجزه، ولكني سأعود يوماً لأنهيه.

عاودت الركض مجدداً بعد فترة استراحة اجبارية امتدت لنحو شهرين، وأخطط ليس فقط لأنهي سباق ماراثون، ولكن سباق تراياثلون أيضاً، وهو سباق يبدأ بالسباحة ثم ركوب الدراجة الهوائية، ثم الركض، حيث تختلف المسافات لكل سباق بحسب نوع السباق. في النهاية، أقول  لكل من يقرأ هذه القصة، أن الحياة لا مستحيل فيها، تحدياتها لا نهاية لها، مستمرة ما دمنا على قيد الحياة، ولكن بالإرادة والتصميم والعزيمة القوية يمكن تجاوز تلك التحديات مهما عظمت، فالأمر برمته يعتمد عليك وعلى إرادتك، فمهما كانت مشاغلك، ومهما كان عمرك، إن أردت شيئأ حقاً فأنت بكل تأكيد قادر على تحقيقه. وتطوير الذات لا حدود له، فالحياة تماماً كما القلب تنبض بأيام جميلة وأخرى حزينة، وعليك أن تصنع أنت من كل أوقاتك لحظات لا تنسى.

علاء الذي ابتدأ مسيرته الطويلة مع الركض على جهاز التريدميل ، اصبح اليوم من اقوى واسرع عدائي فريق Running Amman، سواء كنت تفضل الركض في الشارع، او على اجهزة التريدميل ابدأ بممارسة الرياضة لتبدأ بجني فوائدها.

اقرأ الجزء الاول من قصة علاء منصور مع الرياضة الرياضة عشق

اقرأ ايضاً على مدونة اركض يوم تاريخي