انا جوليا حداد، مدرسة اطفال من ذوي اضطراب طيف التوحد، العمل الذي احبه بشغف ومصدر توليد الطاقة الايجابية لدي الى جانب الركض، وهنا حكياتي مع رياضة الركض، كيف بدأت، وكيف استمرت، والى اين وصلت:
في تسعينيات القرن الماضي، وانت تمرُ في ازقة حينا الهادئ في مدينة عمان، فانك قد شاهدت فتاة صغيرة تركض خلف اسوار منزلها، في كراج سيارة صغير، تركل الكرة بفن ومهارة كما يركلها اولئك اللاعبين المحترفين، او تحمل مسدساً بلاستيكياً وتركض به خلف من يقوم بدور اللصوص محاولة اعتقالهم، تلك انا الطفلة جوليا. طفلة شقية يصعب ان تراها داخل حدود المنزل، كنت احب ابتكار العاب جديدة ومشاركتها مع اصدقائي من اطفال الحي، ولكن افضل اولئك الاصدقاء ورفيقي في جميع مغامراتي وشقاوتي هو اخي الذي احببت لعب كرة القدم معه بالرغم من انه كان دائماً ما يهزمني.
كما تعلمت بفضل والدي اتقان ركوب الدراجة الهوائية على عجلتين في سن مبكرة، اذ انه لخوفه علي من السيارات كان يشترط علي قيادتها على الارصفة فقط، فكانت تلك الارصفة المتعرجة المتكسرة اساس خوضي مغامرات الدراجات الهوائية الجبلية على اراض وعرة عندما كبرت.
اما سنوات الدراسة، فانك ان مررت بجانب تلك المدرسة التي كنت ادرس فيها، فلربما قد سمعت صوت مدرسة الرياضة وهي تصرخ باعلى صوتها “جوليا” وهي تراني اتسلل الى مكان لا تطاله عيناها لاقضي بقية الحصة بعيداً عن انظارها وعن دقائق حصتها البطيئة المملة. لم تكن يوماً حصة الرياضة من حصصي المفضلة، بل كنت انظر اليها على انها “حصة فراغ”، فعلامة مادة الرياضة لم تكن تحتسب ضمن المعدل الكلي، وكثيراً ما كنت احاول الهروب منها بادعاء المرض خصوصاً في ايام تمارين الجمباز، حيث كنت اخشى المرتفعات ولم تكن معلمتي تفهم مصدر خوفي ولا كيفية مساعدتي على تخطيه.
مشاغل الدراسة والعمل اخذتني بعدها على غفلة مني الى حدود السابعة والعشرين من عمري حيث مررت بمرحلة انتقالية من حياتي العملية، تركت خلالها العمل في مجال التسويق والعلاقات العامة واخذت ابحث عن شغفي الحقيقي، تطلبت تلك الفترة من حياتي الكثير من الجهد والتفكير لايجاد طرق مبتكرة لخلق طاقة ايجابية، والا سقطت بدوامة الاكتئاب، فقررت البدء بالمشي.
في مساء يوم من ايام الشتاء الباردة فكرت في الخروج وحدي للمشي لاول مرة، نظرت الى باب المنزل مطولاً مترددة بين الخروج او البقاء في دفئ المكان رفقة كتاب او اغنية وكوب من القهوة الساخنة، ولكنني قررت اخيراً انني سأخرج، وكفتاة ذاهبة للمشي في ظلمة ليل الشتاء الطويل، شعرت وكأنني متجهة الى معركة، تسلّحت بمعطفي ومفاتيح بيتي بقبضة بين اصابعي وخرجت، سرت وحدي في شوارع المدينة المظلمة لا اسمع فيها الا صوت حفيف الاشجار، بعد بضعة كيلومترات من المشي والاستماع لمجموعة من اغاني المفضلة، شغلتني افكاري وامتلأت ثقة بنفسي ولم اعد اشعر بالخوف، نظرت حولي وتأملت اضواء المدينة ومبانيها القديمة التي وشت بعراقة واصالة المكان، تذكرت ما كنت اسمعه من بعض الاشخاص ان مدينة عمان غير مناسبة للمشي وخصوصاً للاناث، كان كل ما حولي يقول عكس ذلك، مدينة جميلة، وأناسها طيبون، فاخذت على عاتقي تغيير تلك الصورة. بدأت امشي يوماً بعد اخر، اصبحت اقطع مسافات تراوحت بين عشرة الى اثنى عشر كيلومتراً دون الشعور بالوقت او التعب، ثم اعود الى منزلي لست لانني مللت او تعبت، ولكن لتأخر الوقت ليلاً.
خلال تلك الفترة ازداد اهتمامي بركوب الدراجات الهوائية الجبلية، واخذت اشارك برحلات مجموعة Cycling Jordan كلما سنحت لي الفرصة، كانت تجربة في غاية الروعة لممارسة النشاط الرياضي الذي احب واستكشاف طبيعة الاردن الخلابة في مناطق مختلفة من المملكة.
في العام 2017 وقبل حلول عيد ميلادي الثلاثين ببضعة اسابيع، سافرت لزيارة شقيقتي في الولايات المتحدة الامريكية، ولاهتمامي برياضة المشي ومكافئة لنفسي على التزامي بممارسة تلك الرياضة قررت شراء ساعتين يدويتين لاحتساب الخطوات، واحدة لي والثانية هدية مني لشقيقتي التي تكبرني باربعة اعوام.
ذات ليلة، حيث كنا جالستين نتبادل اطراف الحديث، قالت لي تعقيبا على حديثي عن اقتراب يوم ميلادي ودخولي عقدي الرابع من العمر، ان جسم الانسان يبدأ بالانحدار والتراجع عند بلوغه سن الثلاثين، وانه يمكن للمرء ان يلمس التغير وان يشعر به منذ اليوم الاول، استغربت كلامها ولكني لم اعره اهتماماً كبيراً، لم ارد استباق الاحداث، تناولت ساعتي الجديدة وشغلت نفسي باكتشاف مميزاتها وخصائصها، فلفت انتباهي انه يمكن لتلك الساعة ان تتعرف على نشاط الجري وتسجيله تلقائياً عند الجري لمدة عشر دقائق متواصلة، لم يكن هناك خيار اخر، فخطر لي ان اجرب تلك الخاصية.
في صباح اليوم التالي وكان يوماً جميلاً مشمساً، جهزت نفسي للخروج لتسجيل اول نشاط جري لي على هذه الساعة، لا، ليس على الساعة، بل اول نشاط جري لي على الاطلاق، كنت متيقنة ان الامر لن يكون صعباً! فأنا رياضية وذو لياقة جيدة، أمشي واركب الدراجة الهوائية لمسافات طويلة. فكانت المفاجأة انني لم استطع الجري لاكثر من دقيقة واحدة، ما ان التقطت انفاسي حتى تذكرت حديث شقيقتي عن عمر الثلاثين.
خلال الايام التي تلت تلك الحادثة قررت انني لن اسمح لعمر الثلاثين ان يسلبني شبابي، واتخذته تحدياً لنفسي بالدرجة الاولى، ولغيري لاثبات عدم صحة هذه المعتقدات، فقررت ان اتمرن لاركض الدقائق العشرة تلك، بدأت اركض دقيقة واحدة وامشي لثلاث دقائق، ثم اركض لدقيقتين وامشي لدقيقتين، وعند عودتي الى عمان استأنفت التمرين على جهاز التريدميل. بعد اسبوعان او ثلاثة من التمرين المتواصل، تمكنت اخيراً من تسجيل ذلك الانجاز. سجلت ساعتي انني ركضت لاكثر من عشرة دقائق، اعتقد انها كانت ثلاث عشرة دقيقة.
منى، احدى الصديقات التي تعرفت اليهن من خلال ممارسة نشاط الدراجات، جائتني في يوم وسألتني هل ستشاركين في اي من سباقات ماراثون عمان؟ لم يكن لدي اية فكرة عن تلك السباقات، ولكن بطبعي الذي يحب خوض تجارب جديدة قلت نعم سأشارك، فقالت: حسناً، لن نسجل لمسافة عشرة كيلومترات، فقد كان مكتظاً وغير منظم بشكل جيد في العام الماضي، سنسجل في سباق نصف الماراثون. اخبرتني انها شاركت فيه سابقاً، ولانني لم اكن اعلم مدى صعوبة ركض سباق نصف ماراثون، ولانني قدّرت ان لياقتي البدنية قريبة بشكل او باخر من لياقة صديقتي، وافقت على التسجيل في سباق نصف الماراثون، وذهبنا سوية للتسجيل، انهينا اجراءات التسجيل وحصلنا على قسائم المشاركة، ولفرحتي بالتسجيل لخوض اول سباق في حياتي، نظرت اليها وقلت فلنتسابق الى السيارة، ركضنا انا ومنى الى مكان اصطفاف السيارة، ولكننا لم نستطع الوصول اليها دون التوقف لالتقاط انفاسنا!
قبل نحو اسبوعين فقط من السباق بدأت بالتمرين استعداداً لذلك اليوم، بدأت بالتمرين على التريدميل، ولكني ادركت سريعاً ان الركض على التريدميل يختلف عن الركض في الشارع، فانتقلت للتمرين في المدينة الرياضة وتحديدا في الغابة الرياضية، ولانني كنت حديثة العهد بالركض كان لابد من ايجاد طريقة مناسبة للتمرين على ركض مسافة واحد وعشرون كيلومتراً، جمعت الكثير من الاغاني على هاتفي النقال وبدأت بالاستماع اليها، فبدأت اركض على احدى الاغنيات وامشي خلال الاغنية التي تليها، ومع تلك الطريقة وتلك الاغاني لم يكن الامر هيناً، ومع استمرار التمارين، كنت اركض وانا العن الركض، والاغاني ومنى ايضاً!
كنت اعتقد ان علي ان اركض مسافة واحد وعشرون كيلومتراً قبل يوم السباق الفعلي كجزء من التدريبات والاستعداد للسباق، وخلال اسبوع واحد فقط ركضت تلك المسافة مرتين، كان بينهما يوم استراحة واحد فقط، تبعه يوم استراحة واحد قبل انطلاق سباق نصف الماراثون الفعلي.
يوم انطلاق السباق كان الثالث عشر من اكتوبر2017، في وسط مدينة عمان القديمة، ووسط اشهر اسواقها واقدمها، وقفت انا ومنى جنباً الى جنب على خط بداية السباق مع عشرات، بل مئات من العدائين المخضرمين. كان هدفي انهاء السباق خلال الوقت المحدد المسموح به وهو خمس ساعات، ولكني انهيته في ساعتين وستة وخمسون دقيقة، كان انجازاً افتخر به الى اليوم، وكنت شاكرة لصديقتي منى التي دفعتني للمشاركة في هذا السباق، حتى وان كان عن طريق الخطأ، فقد اعترفت لي بعد السباق انه كان اول نصف ماراثون لها ايضاً!
جاء العام 2018، وكنت قد وضعت اهدافاً جديدة، وبدأت الاستعداد لماراثون البحر الميت، ولكن هذا العام قررت ان استبدل اسلوب الركض على وقع اغنية والمشي على وقع اخرى. قررت الركض لمسافة كيلومترين متواصلين ثم المشي قليلا قبل معاودة الركض لكيلومترين اخرين وهكذا، فسجلت انا ومنى مرة اخرى لسباق نصف الماراثون. قبل يوم من انطلاق السباق قررت انني لن انظر الى هاتفي النقال طوال فترة السباق، فقد سمعت من بعض الاشخاص الذين شاركوا به سابقاً ان لافتات منتشرة على طول مسار السباق تحدد المسافة التي تم قطعها والمسافة المتبقية للسباق، وتحديداً كل كيلومترين اثنين، وهذا بالضبط ما كنت اريده، بدأ السباق وبدأت اركض وابحث عن لافتة الكيلومترين الاولى، ركضت وركضت ولم اصل لتلك اللافتة التي عندها كنت سأتحول الى المشي، سألت بعض المتطوعين لتنظيم السباق ان كنا قد قطعنا مسافة كيلومترين، فاجابوا بالنفي،فاستمريت بالركض، كنت اركض بوتيرة معتدلة حتى وصلت الى تلك اللافتة، ولكنها لم تكن كيلومترين بل خمسة كيلومترات، لقد قطعت مسافة خمسة كيلومترات لاول مرة في حياتي دون توقف. شعرت انني عدائة حقيقة، فقد كنت قد نظّمت نفسي وسرعتي على وتيرة مريحة، لم اتحول الى المشي بل استمريت بالركض حتى الكيلومتر الخامس عشر حيث شعرت ببعض الالم في قدمي، فاضررت حينها الى المشي، تعلمت من تلك التجربة اثر الافكار المسبقة التي نزرعها في عقولنا، كنت اتعب ولا اقوى على الركض متراً اضافياً واحداً عندما تنتهي احدى الاغنيات وانا اركض على وقع الاغاني، واليوم ولانني لم ارى علامة الكيلومترين التي كنت ابحث عنها بداية السباق ركضت مسافة خمسة كيلومترات حتى رأيت اللافتة، لا، بل ركضت خمسة عشر كيلومتر حتى اضطرني الم قدمي للتحول الى المشي.
اقرأ ايضاً على مدونة اركض فوائد الركض
اضف تعليقا